
مرجعية الفقهاء المقدسة ... الطريق لمعرفة ونصرة الإمام المهدي عليه السلام
يتناول بحثنا هذا موضوعا حيويا مهما كان ولا يزال الخط المقدس الذي قاد المجتمعات واخذ بلبابها وامسك بأزمتها وحفظ لها دينها وأوصل لها علومها وأوضح لها إسفارها وبين لها الأدلة الشرعية التي تشمل العبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة ، وتصدر مراكز الإرشاد والتوجيه بالرغم مما واجه هذا الخط المقدس من محاربة من إبليس وجنوده على طول التاريخ لغرض تهميش دوره ووضع حد لتمسك المسلمين به لأجل إضعافهم وإذلالهم وحرفهم عن دينهم الذي ارتضاه الله عز وجل لهم ، ونقصد به خط الاجتهاد والمرجعية المقدس الذي يبقى مسلك أهل البيت عليهم السلام الذين دعوا له في كثير من وصاياهم وتوجيهاتهم ، وهو الخط الشريف الذي يحفظ للأمة كرامتها وهيبتها حتى ظهور الإمام الثاني عشر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
وإذا علمنا أن القانون والدستور الإلهي لم يختص بزمان معين أو فترة محدودة بل يجب إمضاءه والعمل به وانجازه في كل زمان ومكان يتواجد ويعيش فيه المجتمع الإسلامي، والمهمة لإحلال وانجاز هذا القانون كما هو معروف تقع على عاتق الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله أو من نصَّ على خلافته له، وكما هو معلوم لدى الجميع أن الحاكم الشرعي المجعول والمنصوص عليه من قبل الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه واله هو الإمام المعصوم الذي تتوفر فيه العصمة التكوينية ومؤهلات مواريث الأنبياء من حيث العدالة والتقوى والورع والعلم والإحاطة التامة بمفاهيم ومضامين الدستور الإسلامي المتمثل بالقرآن الكريم، ولم يعين الرسول الأكرم صلى الله عليه واله ويوصي بان الإمام علي بن أبي طالب خليفته من بعده فحسب بل أوصى وعين بوحي من الله سبحانه وتعالى أسماء احد عشر خليفة له من أبنائه بقيادة وتولي أمور المسلمين السياسية والدينية والاجتماعية على التعاقب وكان آخر هؤلاء الأئمة المنصوص عليهم هو القائم المهدي المنتظر عليه السلام وعجل الله فرجه الشريف الذي غاب عن الأبصار غيبته الكبرى لظروف أوجبت ذلك وبعلم من الله تعالى ، وقام الإمام بإلغاء السفارة بعد موت السفير الرابع السمري ولم يعين من يقوم مقامه في توجيه المسلمين الموالين له أحداً في زمن غيبته عليه السلام ، غير انه منح الفقهاء صلاحية رواية الحديث واستنباط الأحكام الشرعية مما أطلق عليهم بعد ذلك (النيابة العامة) في عقائد الشيعة الإمامية .
فإذا تمكن الشيعة الموالون له من إيجاد الأرضية والوسيلة في زمن غيبته وهو خلق الفقيه المجتهد فانه سيكون حاكمها ومسير أمورها والناهض بأعبائها وتكون له مهمة التصدي لمقام المرجعية بما كلفهم الله من اخذ الحقوق وحل النزاعات وفك الاختلافات وحماية الإسلام والحفاظ عليه من التحريف والتشويه لئلا يندرس بمرور الزمن وتزول آثاره ، ثم الدفاع عن المجتمع الإسلامي إذا ما تعرض لعدوان المعتدين .
لماذا الفقهاء العدول :
إذن مما تقدم نفهم أن مهمة التصدي للمرجعية في زمن غيبة المعصوم تكون في عهده الفقهاء العدول وعلى عاتقهم تقع أعباء التوجيه والإرشاد وصدور الفتاوى الشرعية التي تشمل العبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وقد أشار السيد الشهيد محمد صادق الصدر قدست نفسه الزكية في كتابه ( الغيبة الصغرى ) إلى ضرورة وجود القيادة العلمائية في زمن الغيبة، وذكر بعض أدلتها الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام فقال : ( إعطاء القيادة العامة في زمن الغيبة إلى العلماء بالله ، الذين يمثلون خط الإمام عليه السلام ذلك المفهوم الذي أعطاه الإمام الصادق عليه السلام صيغته التشريعية بقوله : ( ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فاني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد( )والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله ).
أوضحه وأعطاه صيغته الاجتماعية الكاملة الإمام الهادي عليه السلام حين قال
لولا
من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالين
عليه والذابين عن دينه بحجج الله , والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك
إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب , لما بقي احد إلا ارتد عن دين الله
...ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة
سكانها , أولئك الأفضلون عند الله عز وجل )( ) ، والأساس العام الذي تقوم
عليه هذه البيانات هو أن المسلمين الممثلين لخط الأئمة عليهم السلام
وقواعدهم الشعبية الكبرى يجب أن لا تبقى في زمن الغيبة وانقطاع القيادة
المعصومة ومصدر التشريع خالية من المرشد والموجه والفكر المدبر يعطيهم
تعاليم دينهم ويرتقي بمستوى إيمانهم وعقيدتهم ,ويشرح لهم إسلامهم ,ويوجههم
في سلوكهم إلى العدل والصلاح ورضا الله عز وجل, فان هذه الجماهير – أن لم
يكن الأكثر – من يكون ضعيف الإيمان والإرادة ويحتاج في تصعيد مستواه الروحي
وعمله الإيماني إلى مرشد وموجة , وإلا كان لقمة سائغة لمردة إبليس وشباكه
من أعداء الدين والمنحرفين وذوي الأغراض الشخصية والمصالح الظالمة ( ).
الصيغة التشريعية والصيغة الاجتماعية:
مما تقدم نفهم أن الأئمة عليهم السلام قد أعطوا للقيادة العلمائية الصيغة أو المؤيد التشريعي والصيغة أو المؤيد الاجتماعي والأئمة عليهم السلام أعطوا هذه الصيغ والمؤيدات للعلماء من مضامين الدستور الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم حيث قول الله سبحانه وتعالى من الناحية التشريعية (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)( ).
وقوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)( ).
وبطبيعة الحال وأثناء عصر الغيبة الطويل سوف يتعرض الدين للتشويه والتحريف وذلك الركام المتناثر من الروايات ومما يشوبها من غموض وابتعادنا تدريجيا عن عصر النص , وظهور ضعاف النفوس والمدعين المنحرفين والهجمات الثقافية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الإسلامي في كل حين مما تؤدي كل تلك العوامل إلى تقوية شوكة النواصب وإضعاف الشيعة الموالين ، فهنا يأتي دور الفقيه والمرجع للذود عن حياض الإسلام والدفاع عنه فهو على أية حال النائب العام للإمام المعصوم وملزم ومكلف في عصر غيبته ، فلذلك أول وظيفة له كما وصف ذلك الإمام الهادي علية السلام بقوله
من
العلماء الداعين إليه والدالين عليه) فهو إذن المرجع والعالم الفقيه يدعو
للإمام من بدفاعه عن الإسلام والمذهب الشريف بكونه الوكيل العام ويدل عليه
حيث يمهد لظهوره عجل الله فرجه الشريف الأسباب والعوامل وكذلك يدافع ويذب
عن دين إمامه بالحجج الدامغة لإنقاذ ضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته
ومن فخاخ النواصب للحول دون ارتداد الناس عن دينهم بسبب كما قلنا الهجمات
الفكرية المنحرفة والتي تحاول تشويه صورة الإسلام وتهديم معالمه الشامخة
وإطفاء أنواره الطاهرة، فهو المرشد والموجه والفكر المدبر وعلى المسلمين أن
يطيعونه.
شرائط المجتهد الفقيه:
الشارع المقدس لم يشذ عن هذه السيرة والقاعدة والطبيعة الاجتماعية العامة , بل أمضاها وأقرها, ولذلك لم يكلف كل إنسان بالاجتهاد والمعرفة التفصيلية لكل ما يمت إلى شؤونهم الدينية ، بل جعله على بعض الناس فكان وجوب الاجتهاد على نحو الوجوب الكفائي.
فمبدأ الاجتهاد والتقليد هو التطبيق المناسب للطبيعة البشرية التي تقتضي توزيع الأعمال على هذه المجموعة من البشر ليكون في كل مكان من يقوم بدوره فيما تخصص من الحرف والصناعات، وبهذا يحصل التكافل والتكامل في النظام الاجتماعي البشري فضلا عن تكامل الفرد وحفظه لان هذا التقليد هو الصحيح عقلاً وشرعاً حيث أن تقليد وتحميل المجتهد مسؤولية الرأي والحكم الذي أصدره واتبعه الإنسان العامي هو باعتبار أن المجتهد من ذوي الاختصاص والمعرفة( ) ، ويشترط في المجتهد الفقيه بعد الإيمان والعقل والبلوغ والذكورة وطهارة المولد، العدالة والاجتهاد المطلق والحياة والاعلمية.
والمراد بالأعلمية هي الإحاطة التامة بالفقه والأصول والعلوم والمعارف الإسلامية بصورة عامة واستيعاب الأحكام الشرعية ومشتقاتها وفهمها فهماً دقيقاً يمكنه من تطبيقها على موضوعاتها بدون تلكؤ أو اضطراب بصورة خاصة.
ونعني بالاجتهاد وهو النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط وتحصيل الأحكام الفرعية التي جاء بها الإسلام والمتعلقة بكافة شؤون وحياة الناس في مجالات المعاملات والعبادات وتنظيم العلاقات الفردية والاجتماعية.
وإذا ما واجه المرجع المجتهد مسائل مستحدثة ومستجدة فتكون مهمته استنباط أحكامها من الأدلة الشرعية وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأحاديث أهلُ البيت عليهم السلام والإجماع والعقل، ولا يجوز له مطلقاً العمل وفق رأيه
الخاص أو بالقياس والاستحسان ، والعمل بحلال محمد صلى الله عليه واله والذي هو حلال إلى يوم القيامة وتحريم حرام محمد صلى الله عليه وآله لأنه حرامه حرام إلى يوم القيامة.
وتعني العدالة هي أن يكون المرجع شيعياً أثنى عشرياً يعتقد بولاية أهل البيت عليهم السلام وبعصمتهم المطلقة وتمسكه بهذه العقيدة ولا ينحرف عنها ولا يرتكب المعاصي بترك الواجبات وفعل المحرمات بدون عذر شرعي معقول ولا فرق في المعاصي بين الصغيرة والكبيرة وان يكون عادلاً في تطبيق الأحكام وتوزيع الحقوق.
والعدالة هي ملكة راسخة في نفس المرجع تحثه على ممارسة الطاعات والمداومة عليها وتمنعه من ارتكاب المعاصي، وهذا السلوك النفسي تترك آثارها الايجابية على مجمل سيرة هذا المرجع وتضبط جميع تصرفاته وأقواله بالضوابط الشرعية وهي لا تكتسب بصورة مفاجئة بقدر ما تأتي نتيجة ممارسة العبادات الواجبة والمستحبة والرياضيات الروحية باستمرار حتى يكون في درجة القرب من الله تعالى والانغمار في ملكوت الله سبحانه وتعالى ، ويجب أن يكون المرجع اعرف الناس بأهل زمانه كي يتمكن من حل جميع مشاكلهم ويرد على ما ينطرح من أفكار منحرفة وضالة وأفكار المناوئين بالعلم والحجج القاطعة ( فليس الحاكم المجتهد الجامع للشرائط مرجعاً في الفتيا فقط بل له الولاية العامة، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصاته لايجوز لأحد أن يتولاها دونه كما لايجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلا بأمره وحكمه )( )، ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة ولذلك يسمى ( نائب الإمام ) ( ) .
غاية الاجتهاد :
الاجتهاد هو مصطلح جاء أو ظهر كردة فعل على الاتجاه الذي يتبنى الاستحسان والرأي في استنباط الأحكام الشرعية، واستمر هذا المصطلح إلى يومنا هذا.
وفي الحقيقة أن الاجتهاد مرتبة علمية كبيرة يقع على حاملها مسؤولية الاطلاع على كل حاجات المجتمع والفرد من الأحكام الشرعية وبذلك يتحمل المجتهد مسؤولية مواكبة العصر والمرحلة التي يعيشها وتستدعي منه تلبية كل شؤونها الشرعية.
ويبقى الهدف الرئيسي لحركة الاجتهاد تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لان التطبيق لايمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها , وكل هذا ساعد على تحويل حركة الاجتهاد عند الإمامية إلى حركة مجاهدة في سبيل حماية الإسلام وتثبيت دعائمه ودعوتها إلى تطبيق الإسلام على كل مجالات الحياة، وكان من الطبيعي نتيجة لذلك أن توسع نطاق أهدافها وتبدأ بالنظر إلى مجالي التطبيق الفردي والاجتماعي معاً، وهذا ما نلحظه بوضوح في الواقع المعاصر لحركة الاجتهاد عند الإمامية وما تمخض عنه من محاولات التعبير عن نظام الحكم في الإسلام وعن فلسفة المذهب الاقتصادي لدى الإسلام ونحو هذا وذاك من ألوان البحث الاجتماعي في الإسلام.
لمحة تاريخية :
من الواضح في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إن الاجتهاد مما ورد منهم هذا أولاً.
والشيء الثاني دواعي الحاجة آنذاك لاستنباط الأحكام الشرعية إما جهلاً بالحكم أو لعدم ورود نص محدد يعين الحكم فضلاً عن بداوة الحياة آنذاك، ووجود الاتجاهات المعادية التي تحاول فرض نفسها وتهميش مذهب أهل البيت عليهم السلام، وقد ظهرت مدارس عديدة ثبتت أصولا وقواعد غير شرعية لتحديد الحكم الشرعي، يقال أن أبو حنيفة لم يثبت لديه أكثر من خمسة عشر حديثاً، وبإزاء واقع كهذا كان يستكمل بقية الفراغات والمسائل العالقة لديه بممارسة القياس، مع إن نظرية القياس في الحقيقة نابعة من عدم كفاية الكتاب والسنة في سن الأحكام وهذا الفهم غير سليم على الإطلاق لان القرآن والسنة المطهرة لم يتركا شيئا أو واقعة إلا وكان لها حكم ( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا )، وهذا القول صادر من الإمام المعصوم كما يدل على الرجوع إلى رواة الحديث وينحصر على المستوى العالي والرفيع من التفكير الفقهي المميز القادر على استنباط الحكم الشرعي، وهكذا نجد أن حركة الاجتهاد تطورت بعد الغيبة وأصبحت ذا قيمة كبرى فيها مدارسها وفقهائها ترسخت داخل المجتمع وثبتت جذورها ، إذ كتب المحقق المتوفي سنة (676) في كتاب المعارج وتحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : ( وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية )، وهذا يعكس التطور التاريخي.
أدلة الاجتهاد الشرعية :
يعتقد الإمامية أن الاجتهاد في الأحكام الشرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور الغيبة، وهذا الاعتقاد ناتج من الروايات الدالة عليه قول الإمام الصادق عليه السلام , عندما سأل عن شخصين تحاكما إلى السلطان فأجاب عليه السلام : ( ينظر من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا .... قد جعلته عليكم حاكماً ) .
وعن أبي خريجة قال : بعثني أبا عبد الله الصادق عليه السلام إلى أصحابنا فقال عليه السلام : قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو نزاع في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى احد من هولاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يتخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر، وهنا ومن كلام الإمام نلاحظ عدة أمور:-
1. إن الإمام يمهد للحاكم الشرعي بين المسلمين لكي يتخاصم إليه الناس في قضاياهم اليومية التي تحدث عادة وحذرهم من التخاصم إلى السلطان الجائر بالرغم من وجوده بينهم عليه السلام .
2. إن الإمام يدعو المسلمين من خلال مضمون كلامه إلى التفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام وبذلك نال هذا الفقيه العارف مرتبة القاضي بإقرار من الإمام عليه السلام في قوله ( فاني قد جعلته عليكم قاضياً ).
3. إن الإمام ارجع الناس إلى الفقيه الورع الذي عرف الحلال والحرام ولم يرجعهم إلى غيره وهذا دليل آخر على منزلة العالم والمجتهد وذلك أن كل إنسان يستطيع التصدي لكل المنازعات التي تحدث بين أبناء المسلمين كما في حالة المنازعات بين أبناء العشيرة حيث يتصدى رئيس العشيرة لهذه الأمور، ولكن لا يستطيع أي إنسان أن يقول أنا فقيه مجتهد بدون دليل علمي ، فعلى هذا فان الحل يكون أكثر صواباً وصحة عند الفقيه من غيره من الناس، وكذلك ما ورد عن معاذ بن مسلم النحوي عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال : ( بلغني انك تقصد الجامع فتفتي الناس، قلت نعم وأردتُ أن أسالك عن ذلك قبل أن اخرج، إني اقعد في المسجد فيجيئني الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ويجيئني الرجل اعرفه بمودتكم وحبكم فاخبره بما جاء عنكم ويجيئني الرجل لا اعرفه ولا ادري من فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فادخل قولكم فيما بين ذلك فقال عليه السلام : (اصنع فاني كذا اصنع)، وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام يقول لأبان بن تغلب : ( اجلس في المسجد وافتِ الناس فاني أحب أن يرى في شيعتي مثلك ). وما ورد عن الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف : ( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا )، وما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : ( إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس وأومأ إلى رجل، فسالت أصحابنا فقالوا : زرارة بن أعين ).
وفي رواية احمد بن إسحاق عن الإمام الهادي عليه السلام قال سألته وقلت من أعامل وعمن اخذ معالم ديني وقول من اقبل فقال عليه السلام : ( العمري ثقتي فما أدى إليك فعني يؤدي وما قال لك فعني يقول فاستمع له وأطع فانه الثقة المأمون ) .
فهذه بعض الروايات الشريفة التي تبين أهمية الاجتهاد وأما ما ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
وقوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة لولا نفرٌ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .
ومن الأدلة الأخرى :
أ. الوجوب المقدمي العقلي .
ب. الوجوب المقدمي الشرعي .
ت. العقل ووجوب دفع الضرر .
ث. الفطرة ووجوب دفع الضرر .
ج. الإجماع .
ح. سيرة المتشرعة .
خ. السيرة العُقلائية وطبيعة المجتمعات البشرية .
إضافة إلى ذلك فان حركة الاجتهاد وخط المدرسة الشرعية الفقهية في الواجهة التي تنتج الزعامات الشرعية للأمة في عصر الغيبة، ولا يمكن أن تنوب عن ذلك أية جهة أخرى لان الملاك الشرعي للحاكمية الإسلامية هو ملاك قوة الاستدلال الفقهي وعمقه أو ما يعرف بالأعلمية في دائرة الحوزة العلمية والذي يعرف الآن بالمرجعية .
قيادة المجتهد للأمة :
إن ذروة التكامل في حركة الاجتهاد فقد تمثلت بمرحلة القيادة حينما دخلت الأمة في عصر الاستعمار حيث رصد تحول وتطور في كيان الحوزة في هذا العصر لان هذا الكيان الذي كان قد أصبح كيانا مركزيا يستقطب أنظار العالم الشيعي بدأ بتسلم زمام القيادة ويدخل الصراع ضد الكافر المستعمر ويتبنى مصالح المسلمين ويدافع عنهم وهكذا بدأ هذا الكيان مرحلة أخرى هي مرحلة القيادة زيادة على استقطابه وتمركزه, وفي الحقيقة أن كيان الحوزة العلمية هو تعبير للتاريخ الشيعي في عصر الغيبة والامتداد الواقعي الذي حافظ فيه المذهب على أصوله وفروعه وإسفاره وهذه المحافظة استدعت أنهار من الدماء الطاهرة وأحدث الكثير من المواجهات في شتى أنحاء الحياة، وكانت هذه المواجهات في التاريخ تعبير عن أصالة المرجعية وعمقها الرسالي والفكري والشرعي والتاريخي .
وقد اتخذ التكامل في المرجعية طريقه رغم الظروف القاسية والمريرة فظهرت المرجعية الموضوعية ، وأهم ما يميزها تبنيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية من اجلها وفي سبيل تحقيقها خدمة للإسلام، وما دامت الأمة في حالة الارتقاء والوعي الذي يؤهلها أن تدرك الإسلام بوصفه رسالتها الحقيقية في الحياة فان المرجعية ستنحوا الطريق الذي يحقق للأمة أهدافها وغاياتها.
الاجتهاد والطريق الأقرب :
لقد أسهبنا كثيراً عن الاجتهاد في هذا البحث ولا بأس أن نوسع الدائرة قليلاً حتى نبين سؤالا مهما هو: كيف يكون طريق الاجتهاد هو الطريق الأقرب لمعرفة الإمام عليه السلام؟؟
إن الاجتهاد كمفهوم هو استفراغ الطاقة وبذل الوسع في العمل ، وبهذه المناسبة يقال لمن بلغ مرتبة سامية ودرجة رفيعة ! المجتهد حيث يستفرغ طاقته ويبذل وسعه في سبيل تحصيل ملكة الاستنباط , إما اصطلاحاً أي في لسان أهل الشرع والمتشرعة فانه مختص ومعين لخصوص الملكة التي بها يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية الفرعية ويستفرغ الوسع لاستخراج كل حكم فرعي من أصله، فهي المدار والمحور والقطب في تحقق الاجتهاد وهذه الملكة هي قوة تحصل بعد القدرة الكاملة، والإحاطة البالغة على جميع منابع الأحكام ومدارك الاجتهاد من علم اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والكلام والتفسير والحديث والرجال ، وعلم الأصول الذي لا غنى عنه بشيء منه إذ هو الأصل في الفقه ، وكل الصيد في جوف الفراء كما يقال.
وان الأصل في هذه المقامات هو لطف الذوق وصفاء القريحة وهي موهبة ومنحة إلهية من قبل الله عز وجل فهي أنوار يهبها الباري عز اسمه لمن يشاء من عباده.
( العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ) وإلا لهذه العلوم مراحل شاسعة، وأودية واسعة لا ساحل لها، فان الإنسان كلما ازداد اتساعاً بها ومزاولة ومداومة، ازداد تضلعاً ورسوخاً في معرفة الخواص والمزايا منها.
كما أن الفقيه المجتهد في عصر الغيبة بالقدر المتيقن هو المتصدي لمنصب قيادة الأمة بمقتضى أدلة كثير ومنها قاعدة اللطف الإلهي لان من شأن المولى الخالق العادل الرحيم الحكيم التصدي لحفظ النظام المادي والمعنوي بسن القوانين وإيصالها عن طريق الرسل والأئمة عليهم الصلاة السلام بتبليغها وتطبيقها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحفظ النظام الاجتماعي العام، وفي عصر الغيبة يحكم أيضا بان المولى سبحانه وتعالى لا يترك العباد بدون لطف ورعاية وبدون توجيه ونظام كالبهائم، فان هذا خلاف الحكمة الإلهية وخلاف كون حلال محمد صلى الله عليه وآله حراماً إلى يوم الدين وخلاف كونه صلى الله عليه وآله أرسل رحمة للعالمين , والمجتمع في عصر الغيبة جزء من العالم الذي تشمله الرحمة، وقد دلت العديد من الآيات والروايات على إن الناس إلى يوم القيامة مشمولون بالرعاية والرحمة الإلهية وان ما فعله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام يكون لجميع الأمم ونحنُ من هذه الأمم فإذا كان النبي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين يتصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة بالأمة فكيف لا تدركنا هذه الرحمة فيما إذا قلنا بعدم وجود البديل الذي يتصدى لذلك الفعل كما كان يفعله المعصومون عليهم السلام فمن العدالة الإلهية أن تشملنا الرحمة والعطف الإلهي كما شمل الناس في عصر الحضور والقدر المتيقن الذي يتصدى لهذا الأمر وتقع عليه المسؤولية العامة هو الفقيه الجامع للشرائط فإذا تحقق هذا المنصب وجب على الناس إطاعته ولجميع المزايا والمقامات التي يتصف بها المجتهد فانه بالتأكيد يكون الدليل الذي يرجع إليه الناس في جميع مختصاتهم وأحوالهم والحوادث الواقعة ومنها قضية الإمام القائم عجل الله فرجه الشريف .
فان من المعروف أن المجتمع تستبيحه غزوات فكرية وأفكار ضالة ومنحرفة ويتعرض لشتى أنواع وألوان الفتن فلمن يرجع الناس في هذه الأمور ليعطيهم الجواب الصحيح ويرشدهم إلى الطريق القويم سوى الفقيه الجامع للشرائط .
فان الفقيه الجامع للشرائط صاحب البحث الأصولي يستطيع بسهولة تمييز الدعاوى الباطلة والكاذبة من الدعوة الصحيحة فلذلك يكون هو الطريق ليس الأقرب إلى الإمام فحسب بل لمعرفة الإمام عجل الله فرجه الشريف فيما لو أذن الله له بالظهور، نعم هذا هو طريق المعصوم سلام الله عليه .
لان المعصوم لم يسن لنا طريق غير هذا الطريق، طريقا واحدا هو طريق الاجتهاد ولو سن طريقاً آخر لاتبعناه , فقد ارجع الأئمة من أهل البيت عليهم السلام إلى أفراد من أصحابهم كمحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وأمثالهم، وأيضاً عموميات قولهم عليهم الصلاة والسلام، انه حجتي عليكم , ومنها عموم قوله ( فللعوام أن يقلدوه ) .
يضاف لكل ذلك الإجماع فكاد أن يكون الأمر فوق ذلك إلى حد يكون من ضروريات الدين ، وأما العقل فلأن وجوب تحصيل الواقع على كل مكلف بالعلم أو العمل يستلزم العسر والحرج بل اختلال في النظام مع التسليم بخلاف ذلك ولو تنزلنا للمدعين بان هناك خطوطاً أخرى غير خط الاجتهاد ( أي افتراض إن المعصوم قد سن خطاً آخر غير الاجتهاد والتقليد )، فان ضعف دليله إلى درجة تجعلهم بمنزلة العدم أمام قوة أدلة الاجتهاد المتواترة.
كما إن سيرة علمائنا الأفاضل على طول الخط هي سيرة الاجتهاد والتقليد والقول بخلاف ذلك يعني إبطال جميع المرجعيات الدينية بما فيهم السفراء الأربعة.
لان منصب السفارة في أيام السفراء أي في زمن الغيبة الصغرى لم يدعو أي شيء غريب ومخالف للعقل والفطرة الإنسانية لم يدعو أنهم رسل أو أنهم أولاد الإمام وإنما كان وضعهم مجرد قناة وحلقة وصل بين الأمة وإمامهم بالرغم من أنهم تحملوا أعباء هذا المنصب بتوصية فعلية من الإمام .
أن ما نراه اليوم من المدعين المنحرفين الذين يحاولون تحريف الكلم عن مواضعه وتشويه الصورة القدسية للإمام عجل الله فرجه الشريف ، إنما أحدثوا انقلاباً في مفهوم الوصاية أو نائب الإمام ولم يكن هذا النظام الذي ابتدعوه اليوم بنفيهم لمبدأ الاجتهاد والتقليد ، لم يكن حجة ولن يصبح حجة في يوم من الأيام ....
يتناول بحثنا هذا موضوعا حيويا مهما كان ولا يزال الخط المقدس الذي قاد المجتمعات واخذ بلبابها وامسك بأزمتها وحفظ لها دينها وأوصل لها علومها وأوضح لها إسفارها وبين لها الأدلة الشرعية التي تشمل العبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة ، وتصدر مراكز الإرشاد والتوجيه بالرغم مما واجه هذا الخط المقدس من محاربة من إبليس وجنوده على طول التاريخ لغرض تهميش دوره ووضع حد لتمسك المسلمين به لأجل إضعافهم وإذلالهم وحرفهم عن دينهم الذي ارتضاه الله عز وجل لهم ، ونقصد به خط الاجتهاد والمرجعية المقدس الذي يبقى مسلك أهل البيت عليهم السلام الذين دعوا له في كثير من وصاياهم وتوجيهاتهم ، وهو الخط الشريف الذي يحفظ للأمة كرامتها وهيبتها حتى ظهور الإمام الثاني عشر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
وإذا علمنا أن القانون والدستور الإلهي لم يختص بزمان معين أو فترة محدودة بل يجب إمضاءه والعمل به وانجازه في كل زمان ومكان يتواجد ويعيش فيه المجتمع الإسلامي، والمهمة لإحلال وانجاز هذا القانون كما هو معروف تقع على عاتق الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله أو من نصَّ على خلافته له، وكما هو معلوم لدى الجميع أن الحاكم الشرعي المجعول والمنصوص عليه من قبل الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه واله هو الإمام المعصوم الذي تتوفر فيه العصمة التكوينية ومؤهلات مواريث الأنبياء من حيث العدالة والتقوى والورع والعلم والإحاطة التامة بمفاهيم ومضامين الدستور الإسلامي المتمثل بالقرآن الكريم، ولم يعين الرسول الأكرم صلى الله عليه واله ويوصي بان الإمام علي بن أبي طالب خليفته من بعده فحسب بل أوصى وعين بوحي من الله سبحانه وتعالى أسماء احد عشر خليفة له من أبنائه بقيادة وتولي أمور المسلمين السياسية والدينية والاجتماعية على التعاقب وكان آخر هؤلاء الأئمة المنصوص عليهم هو القائم المهدي المنتظر عليه السلام وعجل الله فرجه الشريف الذي غاب عن الأبصار غيبته الكبرى لظروف أوجبت ذلك وبعلم من الله تعالى ، وقام الإمام بإلغاء السفارة بعد موت السفير الرابع السمري ولم يعين من يقوم مقامه في توجيه المسلمين الموالين له أحداً في زمن غيبته عليه السلام ، غير انه منح الفقهاء صلاحية رواية الحديث واستنباط الأحكام الشرعية مما أطلق عليهم بعد ذلك (النيابة العامة) في عقائد الشيعة الإمامية .
فإذا تمكن الشيعة الموالون له من إيجاد الأرضية والوسيلة في زمن غيبته وهو خلق الفقيه المجتهد فانه سيكون حاكمها ومسير أمورها والناهض بأعبائها وتكون له مهمة التصدي لمقام المرجعية بما كلفهم الله من اخذ الحقوق وحل النزاعات وفك الاختلافات وحماية الإسلام والحفاظ عليه من التحريف والتشويه لئلا يندرس بمرور الزمن وتزول آثاره ، ثم الدفاع عن المجتمع الإسلامي إذا ما تعرض لعدوان المعتدين .
لماذا الفقهاء العدول :
إذن مما تقدم نفهم أن مهمة التصدي للمرجعية في زمن غيبة المعصوم تكون في عهده الفقهاء العدول وعلى عاتقهم تقع أعباء التوجيه والإرشاد وصدور الفتاوى الشرعية التي تشمل العبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وقد أشار السيد الشهيد محمد صادق الصدر قدست نفسه الزكية في كتابه ( الغيبة الصغرى ) إلى ضرورة وجود القيادة العلمائية في زمن الغيبة، وذكر بعض أدلتها الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام فقال : ( إعطاء القيادة العامة في زمن الغيبة إلى العلماء بالله ، الذين يمثلون خط الإمام عليه السلام ذلك المفهوم الذي أعطاه الإمام الصادق عليه السلام صيغته التشريعية بقوله : ( ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فاني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد( )والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله ).
أوضحه وأعطاه صيغته الاجتماعية الكاملة الإمام الهادي عليه السلام حين قال

الصيغة التشريعية والصيغة الاجتماعية:
مما تقدم نفهم أن الأئمة عليهم السلام قد أعطوا للقيادة العلمائية الصيغة أو المؤيد التشريعي والصيغة أو المؤيد الاجتماعي والأئمة عليهم السلام أعطوا هذه الصيغ والمؤيدات للعلماء من مضامين الدستور الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم حيث قول الله سبحانه وتعالى من الناحية التشريعية (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)( ).
وقوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)( ).
وبطبيعة الحال وأثناء عصر الغيبة الطويل سوف يتعرض الدين للتشويه والتحريف وذلك الركام المتناثر من الروايات ومما يشوبها من غموض وابتعادنا تدريجيا عن عصر النص , وظهور ضعاف النفوس والمدعين المنحرفين والهجمات الثقافية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الإسلامي في كل حين مما تؤدي كل تلك العوامل إلى تقوية شوكة النواصب وإضعاف الشيعة الموالين ، فهنا يأتي دور الفقيه والمرجع للذود عن حياض الإسلام والدفاع عنه فهو على أية حال النائب العام للإمام المعصوم وملزم ومكلف في عصر غيبته ، فلذلك أول وظيفة له كما وصف ذلك الإمام الهادي علية السلام بقوله

شرائط المجتهد الفقيه:
الشارع المقدس لم يشذ عن هذه السيرة والقاعدة والطبيعة الاجتماعية العامة , بل أمضاها وأقرها, ولذلك لم يكلف كل إنسان بالاجتهاد والمعرفة التفصيلية لكل ما يمت إلى شؤونهم الدينية ، بل جعله على بعض الناس فكان وجوب الاجتهاد على نحو الوجوب الكفائي.
فمبدأ الاجتهاد والتقليد هو التطبيق المناسب للطبيعة البشرية التي تقتضي توزيع الأعمال على هذه المجموعة من البشر ليكون في كل مكان من يقوم بدوره فيما تخصص من الحرف والصناعات، وبهذا يحصل التكافل والتكامل في النظام الاجتماعي البشري فضلا عن تكامل الفرد وحفظه لان هذا التقليد هو الصحيح عقلاً وشرعاً حيث أن تقليد وتحميل المجتهد مسؤولية الرأي والحكم الذي أصدره واتبعه الإنسان العامي هو باعتبار أن المجتهد من ذوي الاختصاص والمعرفة( ) ، ويشترط في المجتهد الفقيه بعد الإيمان والعقل والبلوغ والذكورة وطهارة المولد، العدالة والاجتهاد المطلق والحياة والاعلمية.
والمراد بالأعلمية هي الإحاطة التامة بالفقه والأصول والعلوم والمعارف الإسلامية بصورة عامة واستيعاب الأحكام الشرعية ومشتقاتها وفهمها فهماً دقيقاً يمكنه من تطبيقها على موضوعاتها بدون تلكؤ أو اضطراب بصورة خاصة.
ونعني بالاجتهاد وهو النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط وتحصيل الأحكام الفرعية التي جاء بها الإسلام والمتعلقة بكافة شؤون وحياة الناس في مجالات المعاملات والعبادات وتنظيم العلاقات الفردية والاجتماعية.
وإذا ما واجه المرجع المجتهد مسائل مستحدثة ومستجدة فتكون مهمته استنباط أحكامها من الأدلة الشرعية وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأحاديث أهلُ البيت عليهم السلام والإجماع والعقل، ولا يجوز له مطلقاً العمل وفق رأيه
الخاص أو بالقياس والاستحسان ، والعمل بحلال محمد صلى الله عليه واله والذي هو حلال إلى يوم القيامة وتحريم حرام محمد صلى الله عليه وآله لأنه حرامه حرام إلى يوم القيامة.
وتعني العدالة هي أن يكون المرجع شيعياً أثنى عشرياً يعتقد بولاية أهل البيت عليهم السلام وبعصمتهم المطلقة وتمسكه بهذه العقيدة ولا ينحرف عنها ولا يرتكب المعاصي بترك الواجبات وفعل المحرمات بدون عذر شرعي معقول ولا فرق في المعاصي بين الصغيرة والكبيرة وان يكون عادلاً في تطبيق الأحكام وتوزيع الحقوق.
والعدالة هي ملكة راسخة في نفس المرجع تحثه على ممارسة الطاعات والمداومة عليها وتمنعه من ارتكاب المعاصي، وهذا السلوك النفسي تترك آثارها الايجابية على مجمل سيرة هذا المرجع وتضبط جميع تصرفاته وأقواله بالضوابط الشرعية وهي لا تكتسب بصورة مفاجئة بقدر ما تأتي نتيجة ممارسة العبادات الواجبة والمستحبة والرياضيات الروحية باستمرار حتى يكون في درجة القرب من الله تعالى والانغمار في ملكوت الله سبحانه وتعالى ، ويجب أن يكون المرجع اعرف الناس بأهل زمانه كي يتمكن من حل جميع مشاكلهم ويرد على ما ينطرح من أفكار منحرفة وضالة وأفكار المناوئين بالعلم والحجج القاطعة ( فليس الحاكم المجتهد الجامع للشرائط مرجعاً في الفتيا فقط بل له الولاية العامة، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصاته لايجوز لأحد أن يتولاها دونه كما لايجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلا بأمره وحكمه )( )، ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة ولذلك يسمى ( نائب الإمام ) ( ) .
غاية الاجتهاد :
الاجتهاد هو مصطلح جاء أو ظهر كردة فعل على الاتجاه الذي يتبنى الاستحسان والرأي في استنباط الأحكام الشرعية، واستمر هذا المصطلح إلى يومنا هذا.
وفي الحقيقة أن الاجتهاد مرتبة علمية كبيرة يقع على حاملها مسؤولية الاطلاع على كل حاجات المجتمع والفرد من الأحكام الشرعية وبذلك يتحمل المجتهد مسؤولية مواكبة العصر والمرحلة التي يعيشها وتستدعي منه تلبية كل شؤونها الشرعية.
ويبقى الهدف الرئيسي لحركة الاجتهاد تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لان التطبيق لايمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها , وكل هذا ساعد على تحويل حركة الاجتهاد عند الإمامية إلى حركة مجاهدة في سبيل حماية الإسلام وتثبيت دعائمه ودعوتها إلى تطبيق الإسلام على كل مجالات الحياة، وكان من الطبيعي نتيجة لذلك أن توسع نطاق أهدافها وتبدأ بالنظر إلى مجالي التطبيق الفردي والاجتماعي معاً، وهذا ما نلحظه بوضوح في الواقع المعاصر لحركة الاجتهاد عند الإمامية وما تمخض عنه من محاولات التعبير عن نظام الحكم في الإسلام وعن فلسفة المذهب الاقتصادي لدى الإسلام ونحو هذا وذاك من ألوان البحث الاجتماعي في الإسلام.
لمحة تاريخية :
من الواضح في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إن الاجتهاد مما ورد منهم هذا أولاً.
والشيء الثاني دواعي الحاجة آنذاك لاستنباط الأحكام الشرعية إما جهلاً بالحكم أو لعدم ورود نص محدد يعين الحكم فضلاً عن بداوة الحياة آنذاك، ووجود الاتجاهات المعادية التي تحاول فرض نفسها وتهميش مذهب أهل البيت عليهم السلام، وقد ظهرت مدارس عديدة ثبتت أصولا وقواعد غير شرعية لتحديد الحكم الشرعي، يقال أن أبو حنيفة لم يثبت لديه أكثر من خمسة عشر حديثاً، وبإزاء واقع كهذا كان يستكمل بقية الفراغات والمسائل العالقة لديه بممارسة القياس، مع إن نظرية القياس في الحقيقة نابعة من عدم كفاية الكتاب والسنة في سن الأحكام وهذا الفهم غير سليم على الإطلاق لان القرآن والسنة المطهرة لم يتركا شيئا أو واقعة إلا وكان لها حكم ( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا )، وهذا القول صادر من الإمام المعصوم كما يدل على الرجوع إلى رواة الحديث وينحصر على المستوى العالي والرفيع من التفكير الفقهي المميز القادر على استنباط الحكم الشرعي، وهكذا نجد أن حركة الاجتهاد تطورت بعد الغيبة وأصبحت ذا قيمة كبرى فيها مدارسها وفقهائها ترسخت داخل المجتمع وثبتت جذورها ، إذ كتب المحقق المتوفي سنة (676) في كتاب المعارج وتحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : ( وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية )، وهذا يعكس التطور التاريخي.
أدلة الاجتهاد الشرعية :
يعتقد الإمامية أن الاجتهاد في الأحكام الشرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور الغيبة، وهذا الاعتقاد ناتج من الروايات الدالة عليه قول الإمام الصادق عليه السلام , عندما سأل عن شخصين تحاكما إلى السلطان فأجاب عليه السلام : ( ينظر من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا .... قد جعلته عليكم حاكماً ) .
وعن أبي خريجة قال : بعثني أبا عبد الله الصادق عليه السلام إلى أصحابنا فقال عليه السلام : قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو نزاع في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى احد من هولاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يتخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر، وهنا ومن كلام الإمام نلاحظ عدة أمور:-
1. إن الإمام يمهد للحاكم الشرعي بين المسلمين لكي يتخاصم إليه الناس في قضاياهم اليومية التي تحدث عادة وحذرهم من التخاصم إلى السلطان الجائر بالرغم من وجوده بينهم عليه السلام .
2. إن الإمام يدعو المسلمين من خلال مضمون كلامه إلى التفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام وبذلك نال هذا الفقيه العارف مرتبة القاضي بإقرار من الإمام عليه السلام في قوله ( فاني قد جعلته عليكم قاضياً ).
3. إن الإمام ارجع الناس إلى الفقيه الورع الذي عرف الحلال والحرام ولم يرجعهم إلى غيره وهذا دليل آخر على منزلة العالم والمجتهد وذلك أن كل إنسان يستطيع التصدي لكل المنازعات التي تحدث بين أبناء المسلمين كما في حالة المنازعات بين أبناء العشيرة حيث يتصدى رئيس العشيرة لهذه الأمور، ولكن لا يستطيع أي إنسان أن يقول أنا فقيه مجتهد بدون دليل علمي ، فعلى هذا فان الحل يكون أكثر صواباً وصحة عند الفقيه من غيره من الناس، وكذلك ما ورد عن معاذ بن مسلم النحوي عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال : ( بلغني انك تقصد الجامع فتفتي الناس، قلت نعم وأردتُ أن أسالك عن ذلك قبل أن اخرج، إني اقعد في المسجد فيجيئني الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ويجيئني الرجل اعرفه بمودتكم وحبكم فاخبره بما جاء عنكم ويجيئني الرجل لا اعرفه ولا ادري من فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فادخل قولكم فيما بين ذلك فقال عليه السلام : (اصنع فاني كذا اصنع)، وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام يقول لأبان بن تغلب : ( اجلس في المسجد وافتِ الناس فاني أحب أن يرى في شيعتي مثلك ). وما ورد عن الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف : ( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا )، وما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : ( إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس وأومأ إلى رجل، فسالت أصحابنا فقالوا : زرارة بن أعين ).
وفي رواية احمد بن إسحاق عن الإمام الهادي عليه السلام قال سألته وقلت من أعامل وعمن اخذ معالم ديني وقول من اقبل فقال عليه السلام : ( العمري ثقتي فما أدى إليك فعني يؤدي وما قال لك فعني يقول فاستمع له وأطع فانه الثقة المأمون ) .
فهذه بعض الروايات الشريفة التي تبين أهمية الاجتهاد وأما ما ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
وقوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة لولا نفرٌ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .
ومن الأدلة الأخرى :
أ. الوجوب المقدمي العقلي .
ب. الوجوب المقدمي الشرعي .
ت. العقل ووجوب دفع الضرر .
ث. الفطرة ووجوب دفع الضرر .
ج. الإجماع .
ح. سيرة المتشرعة .
خ. السيرة العُقلائية وطبيعة المجتمعات البشرية .
إضافة إلى ذلك فان حركة الاجتهاد وخط المدرسة الشرعية الفقهية في الواجهة التي تنتج الزعامات الشرعية للأمة في عصر الغيبة، ولا يمكن أن تنوب عن ذلك أية جهة أخرى لان الملاك الشرعي للحاكمية الإسلامية هو ملاك قوة الاستدلال الفقهي وعمقه أو ما يعرف بالأعلمية في دائرة الحوزة العلمية والذي يعرف الآن بالمرجعية .
قيادة المجتهد للأمة :
إن ذروة التكامل في حركة الاجتهاد فقد تمثلت بمرحلة القيادة حينما دخلت الأمة في عصر الاستعمار حيث رصد تحول وتطور في كيان الحوزة في هذا العصر لان هذا الكيان الذي كان قد أصبح كيانا مركزيا يستقطب أنظار العالم الشيعي بدأ بتسلم زمام القيادة ويدخل الصراع ضد الكافر المستعمر ويتبنى مصالح المسلمين ويدافع عنهم وهكذا بدأ هذا الكيان مرحلة أخرى هي مرحلة القيادة زيادة على استقطابه وتمركزه, وفي الحقيقة أن كيان الحوزة العلمية هو تعبير للتاريخ الشيعي في عصر الغيبة والامتداد الواقعي الذي حافظ فيه المذهب على أصوله وفروعه وإسفاره وهذه المحافظة استدعت أنهار من الدماء الطاهرة وأحدث الكثير من المواجهات في شتى أنحاء الحياة، وكانت هذه المواجهات في التاريخ تعبير عن أصالة المرجعية وعمقها الرسالي والفكري والشرعي والتاريخي .
وقد اتخذ التكامل في المرجعية طريقه رغم الظروف القاسية والمريرة فظهرت المرجعية الموضوعية ، وأهم ما يميزها تبنيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية من اجلها وفي سبيل تحقيقها خدمة للإسلام، وما دامت الأمة في حالة الارتقاء والوعي الذي يؤهلها أن تدرك الإسلام بوصفه رسالتها الحقيقية في الحياة فان المرجعية ستنحوا الطريق الذي يحقق للأمة أهدافها وغاياتها.
الاجتهاد والطريق الأقرب :
لقد أسهبنا كثيراً عن الاجتهاد في هذا البحث ولا بأس أن نوسع الدائرة قليلاً حتى نبين سؤالا مهما هو: كيف يكون طريق الاجتهاد هو الطريق الأقرب لمعرفة الإمام عليه السلام؟؟
إن الاجتهاد كمفهوم هو استفراغ الطاقة وبذل الوسع في العمل ، وبهذه المناسبة يقال لمن بلغ مرتبة سامية ودرجة رفيعة ! المجتهد حيث يستفرغ طاقته ويبذل وسعه في سبيل تحصيل ملكة الاستنباط , إما اصطلاحاً أي في لسان أهل الشرع والمتشرعة فانه مختص ومعين لخصوص الملكة التي بها يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية الفرعية ويستفرغ الوسع لاستخراج كل حكم فرعي من أصله، فهي المدار والمحور والقطب في تحقق الاجتهاد وهذه الملكة هي قوة تحصل بعد القدرة الكاملة، والإحاطة البالغة على جميع منابع الأحكام ومدارك الاجتهاد من علم اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والكلام والتفسير والحديث والرجال ، وعلم الأصول الذي لا غنى عنه بشيء منه إذ هو الأصل في الفقه ، وكل الصيد في جوف الفراء كما يقال.
وان الأصل في هذه المقامات هو لطف الذوق وصفاء القريحة وهي موهبة ومنحة إلهية من قبل الله عز وجل فهي أنوار يهبها الباري عز اسمه لمن يشاء من عباده.
( العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ) وإلا لهذه العلوم مراحل شاسعة، وأودية واسعة لا ساحل لها، فان الإنسان كلما ازداد اتساعاً بها ومزاولة ومداومة، ازداد تضلعاً ورسوخاً في معرفة الخواص والمزايا منها.
كما أن الفقيه المجتهد في عصر الغيبة بالقدر المتيقن هو المتصدي لمنصب قيادة الأمة بمقتضى أدلة كثير ومنها قاعدة اللطف الإلهي لان من شأن المولى الخالق العادل الرحيم الحكيم التصدي لحفظ النظام المادي والمعنوي بسن القوانين وإيصالها عن طريق الرسل والأئمة عليهم الصلاة السلام بتبليغها وتطبيقها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحفظ النظام الاجتماعي العام، وفي عصر الغيبة يحكم أيضا بان المولى سبحانه وتعالى لا يترك العباد بدون لطف ورعاية وبدون توجيه ونظام كالبهائم، فان هذا خلاف الحكمة الإلهية وخلاف كون حلال محمد صلى الله عليه وآله حراماً إلى يوم الدين وخلاف كونه صلى الله عليه وآله أرسل رحمة للعالمين , والمجتمع في عصر الغيبة جزء من العالم الذي تشمله الرحمة، وقد دلت العديد من الآيات والروايات على إن الناس إلى يوم القيامة مشمولون بالرعاية والرحمة الإلهية وان ما فعله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام يكون لجميع الأمم ونحنُ من هذه الأمم فإذا كان النبي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين يتصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة بالأمة فكيف لا تدركنا هذه الرحمة فيما إذا قلنا بعدم وجود البديل الذي يتصدى لذلك الفعل كما كان يفعله المعصومون عليهم السلام فمن العدالة الإلهية أن تشملنا الرحمة والعطف الإلهي كما شمل الناس في عصر الحضور والقدر المتيقن الذي يتصدى لهذا الأمر وتقع عليه المسؤولية العامة هو الفقيه الجامع للشرائط فإذا تحقق هذا المنصب وجب على الناس إطاعته ولجميع المزايا والمقامات التي يتصف بها المجتهد فانه بالتأكيد يكون الدليل الذي يرجع إليه الناس في جميع مختصاتهم وأحوالهم والحوادث الواقعة ومنها قضية الإمام القائم عجل الله فرجه الشريف .
فان من المعروف أن المجتمع تستبيحه غزوات فكرية وأفكار ضالة ومنحرفة ويتعرض لشتى أنواع وألوان الفتن فلمن يرجع الناس في هذه الأمور ليعطيهم الجواب الصحيح ويرشدهم إلى الطريق القويم سوى الفقيه الجامع للشرائط .
فان الفقيه الجامع للشرائط صاحب البحث الأصولي يستطيع بسهولة تمييز الدعاوى الباطلة والكاذبة من الدعوة الصحيحة فلذلك يكون هو الطريق ليس الأقرب إلى الإمام فحسب بل لمعرفة الإمام عجل الله فرجه الشريف فيما لو أذن الله له بالظهور، نعم هذا هو طريق المعصوم سلام الله عليه .
لان المعصوم لم يسن لنا طريق غير هذا الطريق، طريقا واحدا هو طريق الاجتهاد ولو سن طريقاً آخر لاتبعناه , فقد ارجع الأئمة من أهل البيت عليهم السلام إلى أفراد من أصحابهم كمحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وأمثالهم، وأيضاً عموميات قولهم عليهم الصلاة والسلام، انه حجتي عليكم , ومنها عموم قوله ( فللعوام أن يقلدوه ) .
يضاف لكل ذلك الإجماع فكاد أن يكون الأمر فوق ذلك إلى حد يكون من ضروريات الدين ، وأما العقل فلأن وجوب تحصيل الواقع على كل مكلف بالعلم أو العمل يستلزم العسر والحرج بل اختلال في النظام مع التسليم بخلاف ذلك ولو تنزلنا للمدعين بان هناك خطوطاً أخرى غير خط الاجتهاد ( أي افتراض إن المعصوم قد سن خطاً آخر غير الاجتهاد والتقليد )، فان ضعف دليله إلى درجة تجعلهم بمنزلة العدم أمام قوة أدلة الاجتهاد المتواترة.
كما إن سيرة علمائنا الأفاضل على طول الخط هي سيرة الاجتهاد والتقليد والقول بخلاف ذلك يعني إبطال جميع المرجعيات الدينية بما فيهم السفراء الأربعة.
لان منصب السفارة في أيام السفراء أي في زمن الغيبة الصغرى لم يدعو أي شيء غريب ومخالف للعقل والفطرة الإنسانية لم يدعو أنهم رسل أو أنهم أولاد الإمام وإنما كان وضعهم مجرد قناة وحلقة وصل بين الأمة وإمامهم بالرغم من أنهم تحملوا أعباء هذا المنصب بتوصية فعلية من الإمام .
أن ما نراه اليوم من المدعين المنحرفين الذين يحاولون تحريف الكلم عن مواضعه وتشويه الصورة القدسية للإمام عجل الله فرجه الشريف ، إنما أحدثوا انقلاباً في مفهوم الوصاية أو نائب الإمام ولم يكن هذا النظام الذي ابتدعوه اليوم بنفيهم لمبدأ الاجتهاد والتقليد ، لم يكن حجة ولن يصبح حجة في يوم من الأيام ....